الامام أبو حامد الغزالي:
حياته الفكرية
نلتقي اليوم لِنُلقي
بعض شباك الصيد على الحيتان التي تسبح في الحياة الفكرية لإمامٍ عظيم. تَعدَّدت
منابعه الفكرية. و تكاثرت جدالاته للمخالفين. و عُرف عند المخالفين و الموافقين
بسعة مداركه. هو الامام ابو حامد الغزالي.
فتقديم ترجمة وافية له ليست من المقاصد التي أقصد إليها هنا. لأنَّه مما يضيق
الزمان دونه. لكن ما لا يُدرك كله لا يترك جُلُّه.
-أ- حكايتي مع كتاب "المنقذ من الضلال" و
"إحياء علوم الدين":
دعوني أرجع
إلى مستوى الباك. يَومها كُنتُ مشغولاً بهَمٍّ. و كان ذلك الهمُّ هو الوقوع على
تَرجمةٍ لإمام صدع بما عليها نفسُه من مُدافعته الشُّكوك الواردة على عقائده. و أن
يكون قد انتشر في أرجاءِ الكتبِ ذكر فضله في الدِّفاع على هذه العقائد التي
أعتقدها أنا. فهل مرَّ بتاريخ الامة الاسلامية مثل هذا الإمام؟ إذ كلَّما قرأتُ ترجمة أحدهم أجدهم يقولون عنه
"كان قد حفظ القران في صغره و تعلم و تفقه ... و غير ذلك" و لا أكاد أجد
شيء ً فيما يخص ذلك السُّؤال ذو أبحث له عن جواب.
كان هذا
السُّؤال كَمِثل شرارةٍ أحرقت العديد من سعادتي في مستوى الباك. و كنتُ غالب وقتي
مهموماً مغتماًّ . كأنَّ الدنيا قد ضاقت من سعة. و فقدتُ -ممَّا فقدتُ- يومها تلك
اللذة التي كنت أجدها في سعي الحثيث لحل عويصة من عويصات الرياضيات. فطفق الكسل
يتسلَّل إلى جنبات نفسي. و كان آخره نجاحي في الباك بميزة "مقبول". في
حين كان بمقدرتي الحصول على خير منها لوما ذلك الكسل الناتج من الهم. و ذلك الهم
الناتج من ذاك السُّؤال.
صاحبني هذا
السُّؤال إلى الجامعة و صاحبني معه همُّه و غمُّه. و قضى على الأسدس الأوَّل كما
كان قد قضى على عام الباك. و جاء يوم فرج هذا الهمِّ في الأسدس الثاني. إذ كنتُ
كلَّما انتهينا من حصَّة الجبر أرى سيدة فاضلة تَقرأ كتاباً تنتظر به مجيء الاستاذ
الآخر. أصابني الفضول. ثم اتجهتُ صوبها لأعرف نوع ذلك الكتاب و صاحبه. فسألتها عنه
و عن موضوعه. فلما بدأت أتصفحه استغربت من أسلوبه الصريح و العجيب في وصف أحواله
النفسية من العبارات الأولى من المقدمة. و حدَّثتني هذه السيدة الفاضلة عن الامام
الغزالي حديثاً كان دافعاً كبيراً أن أطلب منها إعارته لي. الطلب الذي قوبل برفض
مؤدَّب. و علَّته أنَّها لم تُكلمه. كانت صفحات هذا الكتاب بيضاء مائلة اللون الى
الصفرة. و وعدتني ريثما تُكلمه تُعِرْه لي. لم أكن أملك المال لشراء الكتاب. و
انتظرتُ أسبوعاً جاءتني بعده بكتاب غير ذلك الذي كانت تقرأ فيه. أحسستُ بالسُّوء.
فهو يظهر عليه آياتُ الجديد. فلمَّا سألتها علةَ ذلك. أفادتني بحكمة قائلةً
:" لا أحبُّ إعارة كتبي لأحد. عندما أنهي قراءة كتاب. يصير بيني و بينه
شراكٌ. فقراءتي لحروفه مثلها مثل غزل نسيج أدنى خيوطه في جنبي و أقصى خيوطه في
جنبه." تَغيرت منذ يومئذ نظرتي للقراءة بل و صداقتي للكتب.
بعدما اطَّلعتُ على كتاب "المنقذ من الضلال"
فرَّج همي و وجدتُ جواباً شافيا عن سؤالي. إذ إن الامام الغزالي قد دوَّن سيرته
الفكرية في كتابه هذا. ثم طالعتُ كتبا أخرى له. و من اهمها كتابه العظيم
"إحياء علوم الدين". و كانت ابنة اختي سميرة غالبا ما تسألني أسئلة من
نوع : ما هو الله؟ أين الله؟ كيف هو الله؟ و ماذا يفعل الله الآن.؟ و أسئلة كثيرة
عن القدر.. كنت أحاول عند كلِّ سؤال الاجابة و التسرع فيها. لكن قلتُ في نفسي أن
أنهج نهج حثِّها على القراءة و البحث على ضوئها. و قبل أقل من ثلاث سنوات من هذا
اليوم قدَّمتُ لها كتاب "كبرى اليقينيات الكونية لسعيد البوطي" فالتهمت
مسائله بعدما شكتْ لي أوَّل الأمر صعوبة لغته. لكن ناقشتها في بعض مسائله فتبين بعد النقاش أنها قد أجادت
أغلب مسائله. فبدأت تختصره و تحتج لبعض المسائل بتصديقات من عندها. لكن مما هو
ظاهر أنَّه لم يشف غليلها. ثم قدَّمتُ لها كتاب "الاحياء". شكت لي أيضا صعوبة
لغته. ثم قدَّمتُ لها معه كتاب لقطة العجلان. فبدأت تطالعهما معا لكن سرعان ما
استغنت عن هذا الاخير بعدما ألفت لغة الغزالي. فانفتح لها من هذا الكتاب سراج قالت
لإثره:" انَّه قد تأكد لي اليوم كم كنت ساذجة في ما كنت أطرحه من أسئلة من ذي
قبل." و لقد استفدتُ كثيراً من ملاحظاتها و تدقيقاتها و مناقشاتها لي و
"فوق كل ذي علم عليم".
-ب-تأثير الغزالي:
امتد تأثير الغزالي من مذهبه "الأشعري" إلى
باقي المذاهب الاسلامية منها المذهب الشيعي الإمامي. فهم قد بالغوا في الاهتمام به
الى أن هموا بإدراجه ضمن رجالات مذهبهم. و قد بالغوا في الاهتمام بكتابه العظيم
"احياء علوم الدين" حتى أزالوا منه مقدَّمة "العقائد" و أدرجو
فيه نصوص من عقائدهم مع الحفاظ على باق الكتاب.
و لم يضل الغزالي حبيس جدران الاسلام في تأثيره. بل خرج
الى نطاق واسع كما يذهب البعض الى أنَّ الفيلسوف "ديكارت" قد تأثر به. فلقد
ذكر د. محمود حمدي زقزوق في كتابه المنهج الفلسفي بين الغزالي و ديكارت التقارب
العظيم بين ديكارت و الغزالي في الأفكار و الطريقة، حتى إنه يوجد تقارب هائل بين
كتاب ديكارت "التأملات" و كتاب "المنقذ من الضلال" للغزالي و
هذا أمر في نظره واضح، ثم قال (ص 12-13):
"و قد سبق أن أشرنا في مقدمة الطبعة العربية
الثانية إلى ما قاله المؤرخ التونسي عثمان الكعاك من اطلاع ديكارت على أفكار
الغزالي عن طريق ترجمة لاتينية لكتاب المنقذ من الضلال للغزالي لا تزال توجد في
مكتبة ديكارت بالمكتبة الوطنية في باريس، و لكن المكتبة الوطنية في باريس نفت أن
يكون لديها ما يسمى بمكتبة ديكارت، و نفت وجود الترجمة اللاتينية التي أشار إليها
الكعاك. و ذلك في خطاب تلقاه الزميل الدكتور عبد الصمد الشاذلي من المكتبة
المذكورة عام 1985م، ردا على استفساره عن هذا الموضوع بعد حوار دار بيننا في هذا
الصدد. و قد توصل الدكتور الشاذلي الذي يعمل في جامعة جوتنجن بألمانيا الى شواهد
توحي بتأثر ديكارت بأفكار الغزالي. فقد أشار الدكتور الشاذلي في مقدمته للترجمة
الألمانية لكتاب المنقذ إلى اثبات أن ديكارت كانت تربطه صلة صداقة ببعض المستشرقين
الذين كان لديهم النص العربي لكتاب المنقذ و من بين هؤلاء الأصدقاء كان المستشرق
الشهير جاكوب جوليوس (1596-1667) كما كان ليفينوس فارتر و هو تلميذ جاكوب المشار
اليه مخطوط المنقذ. و قد آل هذا المخطوط عام 1665م إلى حوزة مكتبة جامعة ليدن
بهولاندا. أي بعد وفاة ديكارت ب 15 عاما فقط. و هذا المخطوط موجود الآن في مكتبة
جامعة ربيك تحت رقم (1) 846 و فضلا عن ذلك يضم قسم المخطوطات العربية بالمكتبة
الوطنية في باريس مخطوطا لكتاب المنقذ تحت رقم (24-25) 1331 كان معروفا في العصر
الذي عاش فيه ديكارت"
السؤال الجوهري الذي سنطرحه الآن: من هو الامام أبو حامد الغزالي؟
نبذة عن حياة الامام الغزالي:
1-
هو محمد بن
محمد الغزالي ولد في قرية طوس من أقاليم خرسان عام 450 هـ. كان والده يغزل الصوف و
يبيعه في دكانه بطوس فلما حضرته الوفاة وصى به و بأخيه أحمد إلى صديق متصوف.
2-
قرأ الغزالي
في صباه طرفا من الفقه ببلدة "طوس" على الامام أحمد الراذكاني. ثم سافر
إلى "جرجان" ليأخذ العلم عن الامام ابي نصر الاسماعيلي. فسمع منه، و كتب
عنه و علَّق عنه التعليقة. ثم رجع إلى طوس.
3-
قال الامام
أسعد الميهني: سمعتُه يقول: قُطعت علينا الطريق، و أخذ العيارون جميع ما معي و مضوا،
فتبعتهم، فالتفت إلي مقدمهم و قال: ارجع ويحك. و إلا هلكتَ فقلتُ له: أسألك بالذي
ترجو السلامة منه أن ترد علي تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به، فقال لي: و ما
هي تعليقتك؟ فقلت: كتب في تلك المخلاة، هاجرتُ لسماعها و كتابتها، و معرفة علمها
فضحك و قال: كيف تدعي أنَّك عرفتَ علمها، و قد أخذناها منك، فتجردتَ من معرفتها، و
بقيت بلا علم، ثم أمر بعض أصحابه فسلم إلي المخلاة. قال الغزالي: هذا مستنطق أنطقه
الله ليرشدني به في أمري فلما وافيتُ "طوس" أقبلتُ على الاشتغال ثلاث
سنين حتى حفظتُ جميع ما علقته، و صرتُ بحيث لو قطع الطريق علي لم أتجرد من علمي.
4-
قدم الغزالي
إلى مدينة "نيسابور" و لازم إمام الحرمين أبا المعالي الجويني و جدَّ و
اجتهد حتى برع في المذهب الشافعي و الخلاف و الجدل و الاصلين إلى وفاة الامام الجويني عام 478 هـ الذي قال فيه: الغزالي بحر
مغدق.
5-
بعد عام 478
هـ خرج الى المخيم السُّلطاني قاصداً "نظام الملك" الذي كان مجلسه محط
رحال العلماء, فوقعت للغزالي اتفاقات حسنة من الاحتكاك بالأئمة فناظر الفحول و قهر
الخصوم و ظهر كلامه. و اعترفوا له بفضله.
6-
في عام 484 هـ
ولي التدريس في المدرسة النظامية ببغداد. و قد دخل بغداد و قد بلغ 34 . و كانت
شهرته قد سبقته إليها، بلغ أوج مجده العلمي في هذه المدرسة. حيث كان يحضر درسه
أزيد من 300 عمامة من آكابر العلماء. و صار إمام العراق بعد إمامة خرسان كما يقول
عنه معاصره الثقة عبد الغافر في ترجمته له.
7-
في عام 488 هـ
غادر الغزالي بغداد و حج ثم توجه الى الشام حيث أقام بها عشر سنين. قضى بعضها في
بيت المقدس. و كان يعتكف في منارة مسجد دمشق طول النهار.
8-
عاد الغزالي
بعد تلك العزلة التي استمرت 10 سنين الى بلده طوس ليتابع عزلته التي استمرت حتى
سنة 499 هـ حيث خرج تحت الحاح الولاة و طلبة العلم إلى نيسابور ليدرس بالمدرسة
النظامية هناك.
9-
لم تطل اقامته
في نيسابور و كانت المدة التي درسها في النظامية فيها يسيرة، ثم ترك ذلك و عاد الى
طوس و اتخذ في جواره مدرسة لطلبة العلم.
10-
كانت خاتمة
أمره اقباله على حديث المصطفى و مجالسة أهله و مطالعة الصحيحين و لو عاش لسبق الكل
في ذلك الفن كما قال عبد الغافر. قال أخوه أحمد عن آخر لحظات أيامه: لما كان يوم
الاثنين وقت الصبح توضأ أخي و صلى و قال : علي بالكفن فأخذه و قبله و وضعه على
عينه وقال: سمعا و طاعة للدخول على الملك ثم مدَّ رجله و استقبل القبلة ففاضت
روحه.
-ج- الغزالي و العلوم الاسلامية :
العلوم الشرعية تنقسم الى قسمين:
-علم الألات:
1.
علم مصطلح
الحديث
2.
علم المنطق
3.
علم اصول
الفقه
4.
علم اللغة
العربية
-علم المقاصد:
1.
علم القراءات
2.
علم التفسير
3.
علم شروح
الحديث
4.
علم أحكام
أفعال المكلفين:
·
علم الفقه
·
علم الكلام
·
علم التصوف.
برع الامام الغزالي في علم المنطق و أصول الفقه. (من
علوم الالات) و كذا برع في علم التصوف و الكلام و الفقه ( في علم المقاصد).
Ø
الغزالي و علم
أصول الفقه:
ممَّا هو معروف أنَّ
الواضع لهذا العلم هو الامام الشافعي في كتابه " الرسالة" سواء بصبغتها
الحديثة و القديمة. و موضوع هذا العلم:
-معرفة الأدلة الكلية
للشريعة الاسلامية
-معرفة كيفية
الاستفادة من هذه الأدلة
-معرفة حال المستفيد.
فبحث الأصوليون هذه
المباحث فزادوا و نقحوا و توسعوا فيه توسعا كبيراً. إلى مطلع القرن الخامس الهجري
حيث انحصرت مشاربه في أربعة كتب : كتاب "البرهان للإمام الجويني و المستصفى
للغزالي و العهد لعبد الجبار و شرحه المعتمد لأبي الحسين البصري.
إذن كان كتاب
"المستصفى" رابع أربعة أفضل كتب علم أصول الفقه. و قد حاول "فخر
الدين الرازي" تلخيص هذه الكتب الأربعة متبعاً نهج المتكلمين في ترتيب مسائله
في كتابه "المحصول". و كذا منافسه "الآمدي" في كتابه
"الاحكام". فجاء من بعده الامام
"ابن الحاجب " الذي أعجب بكتاب الامدي و اختصره في كتابه "المختصر
الفقهي". و جاء بعد الرازي البيضاوي الذي اختصر كتابه في كتابه
"المنهاج". و حاول تاج الدين السبكي جمع المنهجين في كتابه "جمع
الجوامع". و على هذه الكتب "المختصر، المنهاج، جمع الجوامع" مدار
علم أصول الفقه إلى يومنا هذا.
Ø الغزالي و علم المنطق:
كان المنطق قبل
الغزالي حكراً على من يمارس الفلسفة. و الفقهاء قبله. إذ لمَّا نظروا في الفلسفة
فوجدوا ضمن نصوصها ما قطعوا مخالفته لأصول الدين حرَّموا على العامة الاشتغال بها.
و المنطق كذلك أصابه ما أصاب الفلسفة. ذلك لأنَّهم رأوا ضمن الأمثلة التي فيه
أشياء لم يرتضوها. فالغزالي ذهب الى تدوين علم المنطق بغير أن يمثّل بتلك الأمثلة
الفاسدة من النظر الفقهي. و هذا ما صنع في كتابه "معيار العلم". و اختصره في كتابه "محك النَّظر".
Ø
الغزالي و علم
أحكام الأفعال:
موقع الامام الغزالي
ضمن رجالات علم الكلام هو من بين أبرز
متكلمي الاسلام. و يقولون أنه لولا "الجويني لما ذهب الغزالي و لما
راح" إلا أنَّ له قدرة مبهرة على تسهيل الصعب و تبسيط المركب و اختراع
الأمثلة و غير ذلك من طرق البسط. و تظهر براعته في علم الكلام من خلال كتابه
"الاقتصاد في الاعتقاد".
أمَّا موقعه في الفقه
فله كتب منها "البسيط و الوسيط و الوجيز" و كذا كتابه "الخلاصة.
و كما ذكر في كتابه
"المنقذ من الضلال" فإن الغزالي وضع أمامه خطة منهجية تُمكنه من فحص
المناهج الفكرية الموجودة حوله:
v
منهج
المتكلمين
v
منهج الفلاسفة
v
منهج الباطنية
v
منهج الصوفية
فبعدما وصل الغاية في علم الكلام أقرَّ له بصلوحيته في مقصده، و نظر الى
شقيه الكبيرين : علم التوحيد الذي مقصده تبين عقائد الاسلام، و رأى أنه مطلوب
كالغذاء، و هذا القسم مبسوط في القرآن الكريم. الشق الثاني من علم الكلام و هو
تفنيد تشكيكات المخالفين و هذا كالدواء مطلوب فقط للإستشفاء. انتقل بعد ذلك إلى
دراسة منهج الفلاسفة و اطلع على أفضل ما كتب في عصره و هي كتب الفارابي و ابن
سينا. فأظهر مقاصدهم في كتابه "مقاصد الفلاسفة". ثم عرج على منهجهم
بالنقد و تبين ضعف أدلته من جهة و مخالفة الأحكام التي يتفقون فيها لأصول الاسلام
من جهة ثانية. كل ذلك في كتابه "تهافت الفلاسفة". ثم انتقل الى مناقشة فرقة الباطنية في كتابه
"فضائح الباطنية".
بعد أن أتم هذا كلَّه. ضلت نفسه تنازعه للخروج للسياحة و
المجهادة. ذلك قصد الاطلاع على أذواق الصوفية الذين اطلع على أغلب كتبه مثل
"كتب المحاسبي و الجنيد و ابن مكي و القشيري..." و أقرَّ بأنَّها سهلة
القراءة صعبة التطبيق. فلم تطاوعه نفسه إلا بعد أن انغلق لسانه عن الكلام. عندئذ
خرج فطاف البلاد من بيت المقدس إلى غيرها و همَّ بالمجيء الى المغرب قصد الالتقاء
بيوسف بن تاشفين. إلا أنه قد بلغته وفاته فأحجم عن قصده. و من بين آثاره في هذه
الرحلة كتابه العظيم "إحياء علوم الدين".
نقولات من كتاب المنقذ من الضلال :
1.
فقد سألتني
أيها الأخ الكريم في الدين، أن أبث إليك غاية العلوم و غائلة المذاهب و أغوارها.
2.
و ما استفدته
أولا من علم الكلام، و ما اجتويته ثانيا من طريق أهل التعليم القاصرين لدرك الحق
على تقليد الامام و ما إزدرته ثالثا من طريق التفلسف و ما ارتضيته آخرا من طريق
التصوف. و ما انجلى لي في تضاعيف تفتيشي عن أقاويل الخلق من لباب الحق. و ما صرفني
عن نشر العلم ببغداد مع كثرة الطلبة و ما ردَّني إلى معاودتي بنيسابور بعد طول
المدة.
3.
إعلموا أحسن
الله تعالى ارشادكم و الآن الحق لكم أن اختلاف الخلق في الأديان و الملل. ثم
اختلاف الأمة في المذاهب مع كثرة الفرق و تباين الطرق. بحر عميق غرق فيه الأكثرون
و ما نجا منه الا الأقلون. و كل فريق يزعم أنَّه الناجي.
4.
و لم أزل في
عنفواني شبابي منذ راهقتُ البلوغ قبل بلوغ العشرين، إلى الآن و قد أناف السن على
الخمسين. أقتحم لجة هذا البحر العميق و أخوض غمرته خوض الجسور لا خوض الجبان
الحذور. أتوغل في كل مظلمة و أتهجم على كل مشكلة. و أتقحم كل ورطة. و أتقمص عن
عقيدة كل فرقة. و أستكشف أسرار مذهب كل طائفة لأميز بين محق و مبطل. و متسنن و
مبتدع. لا أغادر باطنيا إلا و أحب أن أطلع على باطنته. و لا ظاهريا إلا و أريد أن
أعلم حاصل ظاهرته و لا فلسفيا إلا و أقصد الوقوف على كنه فلسفته. و لا متكلما إلا
و أجتهد في الإطلاع على غاية كلامه و مجادلته. و لا صوفيا إلا و أحرص على العثور
على سر صوفته. و لا متعبدا إلا و أترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته. و لا زنديقا
معطلا إلا و أتحسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله و زندقته.
5.
و قد كان
التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي و ديدني من أوَّل أمري و ريعان عمري. غريزة و
فطرة من الله وضعتا في جبلتي. لا باختياري و حيلتي. حتى انحلت عني رابطة التقليد.
و انكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا. إذ رأيتُ صبيان النصارى لا
يكون لهم نشوء إلا على التنصر. و صبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود. و
صبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الاسلام. و سمعت الحديث المروي عن رسول الله
صلى الله عليه و سلم حيث قال: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه و ينصرانه
و يمجسانه." فتحرك باطني إلى حقيقة الفطرة الأصلية. و حقيقة العقائد العارضة
بتقليد الوالدين و الأستاذين. و التمييز بين هذه التقليدات و أوائلها تلقينات. و
في تميز الحق منها عن الباطل اختلافات. فقلتُ في نفسي: أوَّلاً، إنما مطلوبي العلم
بحقائق الأمور، فلا بد من طلب حقيقة العلم ما هي؟ فظهر لي أن العلم اليقيني هو
الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، و لا يقارنه امكان الغلط و
الوهم؟ و لا يتسع القلب لتقدير ذلك بل الأمان
من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنا لليقين. مقارنة أو تحديا بإظهار بطلانه مثلا من
يقلب الحجر ذهبا و العصا ثعبانا، لم يورث ذلك شكا و انكارا، فإنني إذا علمتُ أن
العشرة أكثر من الثلاثة فلو قال لي قائل: لا بل الثلاثة أكثر، بدليل أنني أقلب هذه
العصا ثعبانا و قلبها و شاهدتُ ذلك معه، لم أشك بسببه في معرفتي. و لم يحصل لي معه
إلا التعجب من كيفية قدرته عليه. فأما الشك في ما علمته، فلا، ثم علمتُ أن كل ما
لا أعلمه على هذا الوجه، و لا أتيقنه هذا النوع من اليقين فهو علم لا ثقة به و لا
أمان معه. و كل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني.
6.
و لما شفاني
الله تعالى من هذا المرض بفضله و سعة جوده انحصرت اصناف الطالبين عندي في أربعة
فرق (بتصرف) 1. المتكلمين،2. الباطنية، 3. الفلاسفة. 4. المتصوف.
7.
ابتدأتُ لسلوك
هذه الطرق، و استقصاء ما عند هذه الفرق مبتدئا بعلم الكلام و مثنيا بطريق الفلسفة
و مثلثا بتعليم الباطنيةن و مربعا بطريق التصوف.
8.
ثم ابتدأت
بعلم الكلام فحصلته و عقلته و طالعتُ كتب المحققين منهم. و صنفتُ فيه ما أردتُ أن
أصنف، فصادفته علما وافيا بمقصوده، غير وافٍ بمقصودي.
9.
ثم اني ابتدأت
بعد الفراغ من علم الكلام، بعلم الفلسفة و علمتُ يقينا أنَّه لا يقف على فساد نوع
من العلوم، من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك، ثم يزيد
عليه و يجاوز درجته، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور و غائلة. و إذ
ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساد حقا و لم أر أحدا من علماء الاسلام صرف عنايته
و همته إلى ذلك. و لم يكن في كتب "المتكلمين" من كلامهم، حيث اشتغلوا
بالرد عليهم إلا كلمات معقدة مبددة، ظاهرة التناقض و الفساد. لا يظن الاغترار بها
عاقل عامي. فضلا عمن يدعي دقائق العلوم فقلتُ أنَّ ردَّ المذهب قبل فهمه و الاطلاع
على كنهه رمي في عماية. فشمَّرتُ عن ساق الجد، في تحصيل ذلك العلم من الكتب، بمجرد
المطالعة من غير استعانة باستاذ، و أقبلتُ على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف و
التدريس في العلوم الشرعية، و أنا ممنو بالتدريس و الافادة ل 300 نفر من الطلبة
ببغداد. فأطلعن الله سبحانه و تعالى بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة على
منتهى علومهم في أقل من سنتين. ثم لم أزل أواظب على التفكير فيه بعد فهمه قريبا من
سنة أعاوده و أردده و أتفقد غوائله و أغواره. حتى أطلعتُ على ما فيه من خداع و
تلبيس و تحقيق و تخييل اطلاعا لم أشك فيه.
10.
ثم إني لما
فرغتُ من هذه العلوم. أقبلتُ بهمتي على طرق الصوفية و علمتُ أن طريقتهم إنما تتم
بعلم و عمل و كان حاصل علومهم قَطع عقبات النفس و التنزه عن أخلاقها الذميمة و
صفاتها الخبيثة حتى يتوصل بها الى تخلية القلب عن غير الله تعالى و تحليته بذكر
الله.
11.
و كم من الفرق
بين أن تعلم حد الصحة و حد الشبع و أسبابها و شروطها. و بين أن تكون صحيحا و
شبعانا؟ و بين أن تعرف حد السكر و أنَّه عبارة عن حالة تحصل من استلاء ابخرة
تتصاعد من المعدة على معادن الفكر. و بين أن تكون سكرانا. بل السكران لا يعرف حد
السكر، و علمه و هو سكران و ما معه من علمه شيء. و الصاحي يعرف حد السكر و أركانه
و ما معه من السكر شيء. و الطبيب في حالة المرض يعرف حد الصحة و أسبابها و أدويتها
و هو فاقد الصحة فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد و شروطه و أسبابه. و بين أن
تكون حالك الزهد و عزوف النفس عن الدنيا.