صناعة التَّأمل و التَّفكير (2).
-أ- مقدِّمة:
1. جرى بيننا و بين مجموعة من طلاب العلم في الأسبوع الماضي، تحت اشراف جمعية أمل للعلم و تنمية المكتسبات في تونفيت، نقاش حول مقالنا "صناعة التأمل و التفكير (1)". و سنحرص في هذا المقال على الإجابة على بعض الأسئلة التي طُرحتْ. و نعزو كلَّ سؤال لصاحبه رغم كون عباراته -في الغالب- منَّا. فإن وُجِدَ قصور في العبارة فمني. و كلُّ من رأى أننا لم نُوفَّق في اقتناص سؤاله على ما يجب فليُنبهنا بإعادة طرحه. و ذلك لأنَّ جلَّ تلك الأسئلة نَنقلها من ذاكرتنا. و كلُّ من وجد في جوابنا نقص فلينبهنا عليه.
2. كان بالإمكان جرد النَّظريات الكبيرة التي تشرح عملية التأمل و التفكير و محاولة احصاء المدارس الفلسفية و الكلامية التي بُنيت من أجل ذلك. لكن ارجأنا ذلك إلى ما بعد الحصول على ما يبدو لنا صحيحاً. ثم الوقوف على ما هو مشترك بيننا لنجعله قاعدة عليها نصعد. ثم بعد ذلك إذا طرحنا مدرسة من المدارس أجرينا مقارنة بين ما هي عليه و ما قد حصلنا عليه سلفا.
سنبدأ بطرح مجمل الأفكار التي قدَّمناها بين يدي اللقاء ثمَّ نعَرِّج على الأسئلة.
-ب- وجوب تعلم الطريقة الصحيحة في التَّفكير:
كل انسان منذ طفولته يأكل و يشرب، لكن يجهل الطريقة و الكيفية التي تَهضم بها معدته الطعام. إذ لا تكفي ممارسة عملية الأكل و الشرب ليعرف كيفية هضم معدته الطعام. و كل انسان يبدأ بممارسة عملية التَّفكير منذ طفولته أيضا. و لا يكفي، ليتْقنَ "صناعة التأمل و التفكير"، أن يمارسه من غير وعي. بل لا بد أن يتعلم الطريقة الصحيحة في التكفير. و الطريقة تكون صحيحة إذا كانت غير مناقضة للضروريات و البديهيات. و الضروريات و البديهيات تأتي من الحس و الأوَّليات العقلية. و من هنا نقول أنَّه يجب على طالب العلم تعلم كيف يستعمل عقله و حسه.
-ت- الإختلاف بين تغذية أجسادنا و تغذية عقولنا:
-1- تأتي تغذية أجسادنا بعد ألم الجوع و العطش. لكن يأتي ألم جوع عقولنا و عطشها بعد تغذيتها.
-2- نغذي أجسادنا لمواصلة العيش. و نغذي عقولنا لمواصلة الحياة. فكم من عائش غير حي (المنغمس في أهداف الفم و الفرج). و كم من غير عائش حي (الأنبياء و العلماء و العظماء الذين هلكوا لكن خلفوا علماً). و كم من عائش حي (من يُوازن بين متطلبات الجسد و طموع الخلود بنتاج العقل). و كم من غير عائش و غير حي (مثل العديد من البشر الذين هلكوا و لم يُخلفوا أثراً معرفيا و لا علميا.)
-ث- الأسئلة:
عزيز امنهو (أستاذ الفزياء ):
1- ماهو الفرق بين التَّأمل و التفكير؟ ذلك لأنَّك وضعتهما في عنوان المقال. فإن لم يكن بينهما اختلاف حَسُن ازالة أحدهما. و إن كان بينهما اختلاف فأظهره لنا.
أقول: "التفكير" تحريك الإدراكات الموجودة في النفس بغير اشتراط البلوغ الى معرفة شيء. و التَّأمل تحريكها بأمل الوصول إلى مجهول. فالتفكير أعم من التَّأمل. إذ كل تأمُّل تفكير و ليس كل تفكير تأمل. و لكل منهما صناعة خاصة به. و يظهر أنَّ العناية بصناعة الحركة المطلقة للإدراكات غير العناية بصناعة الحركة القصدية. لذلك جعلتُ العنوان "صناعة التأمل و التفكير" بمعنى "صناعة التأمل" و "صناعة التَّفكير". و قدَّمتُ التَّأمل على التَّفكير لكونه المقصود بالذات.
2- من جهة نظري. كان من الأفضل لو قُلتَ "كيف نمارس التفكير؟" كعنوان للمقال.
أقول: السؤال بكيف نطلب به تحديد حالة من الحالات الجائزة على الموضوع. و النَّاظر في هذا الجزء من المقال الذي كتبناه لا يجد فيه إلا طريقاً كليا و مجملاً. إذ ذهبنا فيه مذهب البحث عن المشترك بين الناس. فجعلنا "صناعة التأمل و التفكير" تنقسم الى قسمين : من المطالب الى المبادئ . من المبادئ رجوعا الى المطالب. و هذا لا يُعدّ تحديدا لحالة من حالات التفكير. فلو كان عنوان المقال كما ذهبتَ لوقعنا في تَخالف بين مُدَّعى العنوان و بين ما هو مُقدَّم في المقال.
3- قُلت: "من فقد حساّ فقد علما" . هناك الكثير من العلماء من كان فاقد للحس –كمثل هوكنغ- لكن رغم ذلك صار عالما؟ إذ فُقدان الحس لا يمنع الإنسان أن يصير عالماً.
أقول: الاعتراض على تلك العبارة بمثال "هوكنغ" لا يتم. و ذلك لأنَّ هذا الأخير غير فاقد لأي حس. فسقط الاعتراض به. و معنى العبارة أنه من فقد الحسَّ الذي به يُتَوصَّل إلى إدراك الجنس الخاص به يَمتنع عليه إدراكه بغيره. مثلاً من فقد حاسة السَّمع تَعذَّر عليه إدراك الأصوات بعينه مثَلاً. ثم أقول: صفة "عالم" تتعلق بشيء. فنطلق هذه الصفة على الانسان باعتبارات مختلفة. فنقول عالم في الأحياء و عالم في الرياضيات و عالم في الفزياء... و نقصد بذلك أنَّه يقتدر على الاستدلال على المقولات الموجودة في ذلك العلم. فيمكن أن تحصل هذه الملكة عند الانسان رغم كونه فاقدا لحس. و هناك أمثل في التاريخ لعلماء في الرياضيات فقدوا حواسهم مثل "Euler " الذي كان مضرب المثل في النجابة الرياضياتية لكنه فقد بصره في آخر عمره. ففقدانه للحس لم يجعله يفقد علم الرياضيات و براعته فيها. و أخيراً نقول أنَّ الحس هو شرط للتَّعقل و ليس علةً له.
يوسف بن لحسن المداني (تلميذ في الباك):
1- تباعاً للتمييز الذي وضعته بين العيش و الحياة. و قولك بوجود أربعة أصناف: عائش حي. عائش لا حي. لا عائش حي. لا عائش لا حي. فإلى أي الأصناف ينتمي الحاضرون لهذا اللقاء؟
أقول: من الحاضرين من أعرف . و منهم من لا أعرف. فأما أولئك الذين أعرفهم من أمثال "إدريس باموح (الأديب و الشَّاعر)، حميد أخازيز(اللبيب و المدقِّق)، سمير بداوي(الفيلسوف النتشاوي)، عزيز منهو(المُنمِّي البشري)، لحسن زروال (رائد القضية الأمازيغية)، صفاء قدوش(المناظرة الذكية)، علي أعبيشى (الفيلسوف الكانطي)، يوسف بوشام (عالم الفزياء مستقبلا)..." هؤلاء أجد فيهم الثراء المعرفي و الحياة العقلية. يجوز أن أختلف معهم. لكن قطعاً هم من الصنف الأوَّل. . و الذين لا أعرفهم من الحاضرين يتعذر علي الحكم عليهم. فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره.
توجيه من الأستاذ عزيز منهو: الذي حضر إلى اللقاء قدَّم أكبر دليل على حياته الفكرية.
2- في مقالك الذي قدَّمتَ. طرحتَ طرقاً كليةً لما تفهمه من صناعة التفكير. من أين لك أنَّ هذه الطريقة هي الطريقة الصحيحة لصناعة التفكير؟ و أليس هناك طرق أخرى غيرها؟
أقول : الشيء الذي إدعيتُه في المقال هو أن أي إنسان عندما يقصد إلى تعلم شيء جديد يتحرك ذهنه من ذلك الشيء إلى البحث. و لم أقدِّم بعد طريقة لفعل ذلك ، لذلك أرى أنَّ هذا السؤال سابق لأوانه. بل و الجواب عن مثل هذا السؤال يتطلب دراسة لمناهج مختلفة و متعددة. فمن المجازفة التقدم نحو الجواب عليه قبل النظر في الأشياء التي يقلُّ فيها الاختلاف. و من بين هذه الاشياء تلك التي طرحتُ في المقال.
سمير بدوي (استاذ الفلسفة)
(و هو قد تممَّ سؤال التلميذ وليد لذا لم أنقل كلام هذا الأخير و اكتفيتُ بقول الأستاذ سمير):
1- التمييز الذي قدَّمتَ بين الكلام النفسي و بين العلم غير مسلَّم. ففي نظري يتعذر وجود فكر فضلا عن العلم من غير كلام. فالعلم معنى. و الكلام هو لفظ يحمل معنى. فكيف يجوز وجود كلام نفسي بدون أن يكون حاملا لعلم؟
أقول : العلم هو معنى يُطابق ما هو في الخارج. أمَّا الكلام النفسي فهو معنى يَجوز أن يُطابق ما هو في الخارج كما يجوز أن لا يطابقه. فرغم كونهما من نفس الجنس (الذي هو المعنى) إلاَّ أنَّهما يختلفان من جهة اعتبار المطابقة و غير المطابقة. و من هنا نقول بجواز ان يكلِّم الانسان نفسه بشيء ليس هو علم في نفسه. أنظر معي: افرض أنَّ التمييز الذي قدَّمته بين الكلام النفسي و العلم ليس له مصداق في نفسه. لكن رغم ذلك فنفسي تتكلَّم بهذا الفرق. فكون أنَّه لا مصداق له في نفسه يَنفي عنه صفة "العلم". و لكن رغم ذلك أجد أنَّ نفسي تتكلم به. لذلك لا ينفي عنه وصف كونه "كلام نفسي". فظهر بهذا أنَّ الكلام النفسي غير العلم.
2- لا اسلِّم لك التمييز بين العيش و الحياة؟ فما هو الاعتبار الذي تبعته في هذا التمييز؟
أقول : لا مشاحة في الاصطلاح. ميَّزتُ بين معنيين : الأول كون الانسان يُوقِف همَّه على هدف واحد هو اشباع رغبة الفم و الفرج. الثاني كون الانسان له همُّ إكمال نفسه بالمعارف. و من الظاهر أنَّ هذين المعنيين مختلفان. فاصطلحتُ للأول لفظ "العيش" و الثاني لفظ "الحياة".
إدريس باموح (أستاذ الفرنسية):
قُلتَ أنَّ النَّظر هو ترتيب المعلومات للحصول على المجهولات. و يجوز أن يكون لكل انسان ترتيب خاص به. إذن تتشعب الطرق الموصلة إلى المجهول بكثرة النَّاس. كيف يمكننا أن نحدد أي هذه الترتيبات صواب و أيها غير صائب؟
أقول: سبق أن قلتُ أن الطريقة الصحيحة هي تلك التي لا تناقض الضروريات و البديهيات. فمن سلك طريقة في ترتيبه أفضتْ به إلى مناقضة ما هو ضروري أو بديهي تأكَّد لنا بذلك أنه قد أخطأ. و الطرق منها ما هو جليّ واضح مثل "أ يستلزم ب" و " ب يستلزم ج" إذن "أ يستلزم ج". و منها الغامض إن حلَّلناها وجدناها ترجع إلى هذا الجلي الواضح. و يلزم أي إنسان ادعى دعوى أن يسندها بدليل. و كل دعوى عارية عن الدَّليل فهي ساقطة.
حفصة ايت المداني (تلميذة في الجدع المشترك علمي):
لماذا جعلتَ مقوم "صناعة التأمل و التفكير" من مقوِّمات الباحث العلمي؟
أقول : يلزمك قراءة مقالي "مقوِّمات الباحث العلمي. و هناك نظرتُ إلى المقومات الاساسية التي يحتاج إليها أي باحث في العلوم. ثم بدأتُ بمقدِّمة: أنَّنا كلُّنا قد جئنا إلى هذه الدنيا و أنفسنا خالية عن المعارف. و ذهبتُ إلى أنَّه من بين الطرق التي يُدخل بها الانسان المعارف إلى ذهنه توجد القراءة. و بعد أن تكثر هذه المعارف في نفسه يتوجَّب عليه البحث عن طريق آخر يصل به إلى معارف أخرى ليست من جنس ما قرأه. و قلتُ أنَّها طريق التَّأمل و التفكير. و يتوجب عليه إتقان هذه الصناعة لما قلتُ في المقدِّمة.
علي أوعبيشى (أستاذ الفلسفة):
1- أختلف مع المفهوم العام من موضوعكم. و المفهوم العام منه انَّكم تميلون إلى القول أنَّ العلم قائم على النظام. و أنَّه بوسع أي كان تتبع تقنيات محدَّدة فيحصل إثره على العلم. و من جهة نظري هناك جزء كبير من العلم قائم على الصدفة. فلذا لا أعتقد بوجود وصفة سحرية و جاهزة ليصبح الانسان باحثا علميا.
أقول : أولاً: لا يظهر من كلامي أنني أذهب لا إلى كون العلم قائم على النظام التام و لا إلى نقيضه. بل الهم الذي أردتُ أن أصل إليه تقديم أرضية يقل عليها الخلاف. و هذه الأرضية هي ملاحظة عمل الذهن في حركته ذهابا و مجيءً. و دعواك أنَّ هناك جزء كبير من العلم قائم على الصدفة يحتاج إلى دليل. و لا يسعفك في ذلك ما تعتمد عليه من أمثلة. من قبيل أنَّ هناك علماء طبيعيون قد تنبهوا بحكم المصادفة إلى قوانين طبيعية. فهذا لا يجعل من العلم نفسه قائما على المصادفة. بل الشيء الذي هو قائم على المصادفة هو تنبههم فقط. أمَّا بعد تنبههم إلى ذلك يحتاجون إلى دعم كل ذلك بأدلة. و هنا يحدث لهم ما شرحته في المقال. ثانيا: إذا ظهر أن الشيء القائم على الصدفة هو التنبه و ليس ذلك الادراك المُعزَّز بدليل الذي نطلق عليه اسم "العلم" تعذر عليك أن تُطلق القول بعدم وجود وصفة تَجعل الانسان باحثا علميا. و الواقع يُخالفك. بل حِرْصُ الكَثِير من الدول في استجلاب العلماء إلى مراكز أبحاثها و إحاطتهم بالتلاميذ و صرف الأموال الطائلة من أجل إتقانهم الأدوات البحثية التي يملكونها.. كلها أمور تؤكد أن هناك شيء عندهم يتوجب تعلُّمه. و هذا الشيء هو ما ذهبتُ إليه في المقال. أي إتقانهم الانتقال من الأشياء المجهولة إلى المعلومة و العودة لإدراك المجهولة.
2- العديد من الأخطاء التي يتخبط فيها الانسان مَردُّها إلى تلك التصورات التي اكتسبها من محيطه الاجتماعي. فلذا أرى أنَّه لزاما على الانسان، إن أراد البحث في العلم، قطع صلته بتلك المكتسبات. بل أكثر من ذلك يجب عليه، تباعاً لما قرَّره كانط، أن يكون بحثه موضوعيا، عقلانيا، صوريا، كونيا. إذ العلم لا دين له و لا وطن له و لغة له.
أقول: لا أختلف مع هذا الكلام في عمومه.
كل الشكر على إدماج هوامش النقاش في مقالتك ...أعتز بالقرءة لك... عما قريب سأنشر هنا إن أمكن ردا بخصوص علاقة الحس بالعلم. كما أوردتموها في مقالتكم الغنية والتي كانت مدار نقاش في عرضكم
ردحذف